“لو كنت قلما من رصاص،” سألني أحدهم “كيف تحتمل
أخطاء البشر وخطاياهم، وبصمات أصابعهم اللزجة وهي تضغط على رئتيك؟ وكيف تحتمل يا صديقي إصرارهم المستفز على الضغط فوق عصارة قلبك طوال الوقت؟ كيف تبتسم وأنت تتهاوي من الداخل لكي تدق حروفا لا معنى لها أو تؤطر لوحة تافهة؟ أليست حياتك كإنسان، مهما اكتنفها من مصاعب وضغوط، أهون من حياة قلم رصاص بائس لا يتورع صاحبه عن بريه كل حين حتى ينتزع منه الرمق الأخير؟”
كان سؤال صديقي مستفزا لدرجة أدهشتني، فلم أتخيل نفسي أبدا قطعة من جماد مهما علت قيمتها. صحيح أنني لست سعيدا للغاية بتركيبتي البشرية الهشة التي ترفعني في لحظة إلى السماء السابعة، ثم تنحط بي بعدها إلى أسفل أرضين، لكنني كنت قانعا حتى استقر السؤال في أعماقي.
فتخيلت نفسي قلما براقا ذا محاية حمراء، تلتف حولي أقواس قزح مدهشة، بينما تستقر عمامة معدنية صفراء أسفل قبعتي الحمراء، وتخيلت نفسي في يد صانع ماهر يوشك أن يضعني في علبة من الورق المصقول إلى جوار زمرة من التوائم المتماثلة.
وتمنيت …
تمنيت أن أقع في يد عالم أو قاص أو مفكر، وأن يجنبني الله الوقوع في يد طفل لا يرقب في خشبي إلا ولا ذمة. صحيح أنني سأتعرض في كل الحالات إلى القصف والبري والخسف، لكن شتان بين يد رقيقة تحسن الرفقة وتصون الرفيق، ويد غليظة بليدة لا تحفظ ودا ولا تصون عهدا. لو كنت قلما، لاخترت الرفيق الهين اللين الشفوق قبل أن أسقط بين أنامله، فالرحلة الشاقة تهونها الرفقة الطيبة.
أما أن أقضي حياتي بين يدي من لا يعرفون قيمتي أو يقدرون وجودي، فهذا أمر لن أقبله ما دام في قلبي رصاص يكتب.
ولو كنت قلما من رصاص، لأدركت أن أثمن ما أملكه يوجد داخلي، وأن القشر اللامع والخشب المطلي مجرد ديكور فارغ لا يحمل معنى ولا يؤدي رسالة. فالخشب والألوان مجرد ديكور تافه لا يعبر أبدا عن جوهر الأقلام ولبابها. فكم من أقلام تزينت بالأصباغ والأحبار، لكنها لا تحمل قلبا يستحق قرشا واحدا.
فقيمة القلم تكمن في أعماقه، وخشب بلا رصاص كصدفة بلا محار لا خير فيها ولا طائل وراءها.
لو كنت قلم رصاص، لأفنيت رصاصي في تعليم الناس وتثقيفهم، فالناس في هذا العصر يجيدون استخدام الهواتف النقالة، والحواسيب الذكية، لكنهم غير مثقفين.
وتجد الواحد منهم يتحدث بأكثر من لغة، لكنه عيي عن توصيل أي معنى، حتى الكثير من أهل الأدب، وأساطين الفكر قد أصابهم ما أصاب العوام من بلادة فكرية ولزوجة روحية أفسدت العقول وخربت النشء. ولو كان الخيار لي، لاخترت يد المفكر عن يد الأديب، لأنه الأقدر على انتشال هذا الجيل من وحل الأفكار المستوردة الجاهلة، والخلط غير النزيه بين غث الأفكار وسمينها.
ولو كنت قلما من رصاص، لتحملت قسوة البري ومرارة القصف كي أبلغ رسالة للناس. فأصحاب الرسالات يتعرضون دوما للضغط والتنكيل والخسف.
ولو ترك لي صاحبي خيارا، لتحملت معه شظف الحياة وقسوتها، وبذلت له رصاصي عن طيب خاطر في سبيل إخراج البشرية من ضلالاتها الأخيرة، وإعادتها إلى جادة الصواب. أعرف بالطبع أن هذا الأمر فوق طاقة كاتب واحد ولو كان شهيرا، لكنني أثق أن الكلمة مسئولية، وأنها قادرة على تغيير مسار التاريخ طالما تلقفتها عين راقية أو أذن واعية. وسأرفض قطعا أن أكون أداة بليدة في يد من يلوثون الفكر ويزيفون الحقائق ليقنعوا الناس بالباطل من أجل دنيا يصيبونها أو مناصب يتولونها.
ولو كنت قلم رصاص، لأدركت أنني قادر على محو أخطائي، فلو لم أكد معدا للخطأ، لأودعني الصانع قلبا من حبر داكن. سأكون سعيدا بفطرتي التي جبلت على ارتكاب الأخطاء، وكذلك بقدرتي المدهشة على تصويبها.
صحيح أن الخطأ والمحو يقصران من عمري الافتراضي، لكنني لن أفترض لنفسي عصمة غير منطقية لأرضي غرور ألواني. ضعيف أنا وإن صنعوني من خشب الزان. وهشاشتي تنبع من أعماقي. فالقلب موطن الضعف والهوان عند أغلب الكائنات. سأفتخر بضعفي، وبقدرتي على التغلب على هذا الضعف ومحوه كلما استطعت إلى ذلك سبيلا.
وسأتذكر دوما أن أترك بصمتي فوق كل بياض. فأنا لم أصنع لكي أوضع في درج مغلق أو في مقلمة ملونة. وما صنعني خالقي إلا لأمارس وضع بصماتي المتفردة فوق ما أستطيع من ورق. لا أريد أن أخرج من الحياة غفلا كما دخلتها.
أدرك أن هناك الكثير من الأقلام تشبهني، لكنني أدرك أن العبرة بالأثر، ولهذا سأحاول جهدي أن أكون لطيفا في كل ما أخط، ورقيقا في كل ما أكتب.
لا أريد أن أترك في أذهان الناس أو ذاكرة القراء كلمة نابية أو ذكرى لا تليق. فإذا رحلت، وجدت من يترحم على رصاصي الزاهي، ولوني الأنيق، وكلماتي الراقية.
“ولو قدر لي أن أكون قلما من رصاص يا صديقي …،” وتلفت حولي، فوجدتني وحدي تماما. ربما مل صديقي من استرسالي في التأمل فرحل دون أن يودعني، وربما لم يكن أبدا ثمة صديق.